حسام مطر
الجمعة 19 أيلول 2025
تظهر كتابات متتالية لخبراء وضباط سابقين في كيان العدو الإسرائيلي (منها نص للعميد احتياط مائير فينكل، رئيس مجال البحث في مركز «دادو» في الجيش الإسرائيلي) تجادل بأن الحزب تفاجأ بالحرب الإسرائيلية ضده في أيلول 2024. وتسأل هذه الكتابات لماذا لم تدرك قيادة الحزب جاهزية إسرائيل لشنّ ضربة استباقية عدوانية، تمهيدًا لـحرب حاسمة؟
في إطار الإجابة، تظهر مقاربة مهيمنة تفسّر «المفاجأة» بكون الحزب علق بعد 7 أكتوبر 2023 داخل مفهوم أن إسرائيل مرتدعة ولن تتجاوز مفهوم «الحرب دون المواجهة الشاملة» الذي أجبرها الحزب على التعايش معه بعد عام 2006. هذا «الجمود المفاهيمي» حبسه في منطقة راحة، وبالتالي مشكلة سوء التقدير لدى الحزب، بحسب هذه المقاربة، تتجاوز كونها خللًا في حسابات ميزان الردع والأخطاء الاستخبارية التقليدية (مثل فجوات المعلومات، وتحيّزات التفكير المختلفة، مثل وهم اليقين ووهم المعرفة العميقة بإسرائيل، والتفكير الأحادي).
بالمناسبة، هذا هو التفسير الإسرائيلي لمفاجأة 7 أكتوبر، ومفاده أن تل أبيب علقت في جمود مفاهيمي بكون «حماس» مردوعة ومهتمّة بالاستقرار والحكم في غزة ولذلك لم يتم تفسير كل الإشارات الواردة من غزة على أنها تحضير لهجوم واسع النطاق.
كيف استدلّ أنصار هذه المقاربة على عدم إدراك قيادة حزب الله للتحوّل الإسرائيلي بعيدًا من الردع باتجاه الحرب الشاملة رغم ما وقع بين حزيران وحتى بعد 17 أيلول 2024؟ الدليل هو «أن نصرالله لم يبدأ حربًا شاملة». هذا الاستدلال قد يكون اختزاليًا وقاصرًا، إذ يمكن أن يكون لعدم المبادرة بحرب شاملة تفسير آخر. تطرح هذه المقالة تفسيرًا بديلًا محتملًا مفاده أن عدم المبادرة مرتبط بحساب الكلفة والعائد وتقييم المخاطر حتى مع إدراك التغيير المفاهيمي في إسرائيل وترجيح جنوحها نحو حرب سريعة وحاسمة (الحسم هنا بمعنى تكريس قواعد جديدة تنهي معادلات الردع وتنهي القدرة والرغبة في مواصلة الحرب) بعد أن تحقق معظم الأهداف العملياتية في غزة.
سبق لكاتب هذه المقالة أن نشر نصًا في صحيفة «الأخبار» بتاريخ 10 أيار 2024، خلص فيه إلى أن إطلاق حزب الله جبهة الإسناد أتى استجابة لعامل رئيسي هو «تغيّر عدسة الأمن والدفاع» لدى كيان العدو، ومن تبعات ذلك أنه «على مستوى الأمن الإستراتيجي انطلقت مُحاجَّات إسرائيلية أنه يجب القضاء على تهديد حزب الله في لبنان ولا سيما قدراته الإستراتيجية... ولذلك، لا بد من تغيير كامل الوضع في لبنان عبر حرب شاملة بالاستفادة مما حصل في 7 أكتوبر».
هذه القراءة انعكست في خطاب حزب الله خلال عام 2024، وبالتحديد في خطابات الشهيد السيد حسن نصرالله الذي كان يكرّر فيها عرض خيارات المقاومة بحال انتقال إسرائيل نحو الحرب الواسعة على لبنان، ما يدل أنه كان يدرك جدّية ذلك (بالمناسبة، يعرّف السيد نصرالله، عام 2014، المفاجأة بكونها ما يقع خارج السياق). مع الإشارة إلى أن السيد الشهيد كان حريصًا على تقديم خطاب لا يؤجج القلق الشعبي من احتمال الحرب الواسعة في ظل ما كان يتعرّض له مجتمع المقاومة من حرب معلوماتية هائلة ولكون توقيت احتمال الحرب مرهونًا بعوامل عدة ومفتوحًا على الزمن.
إذًا، المشكلة قد لا تكون جمودًا مفاهيميًا أعاق توقّع الحرب الشاملة مع ضربة استباقية، بل أن الحزب فضّل انتظار المبادرة الإسرائيلية مع التحسّب لها بما هو متاح له باعتباره بديلًا أجدى من المبادرة الاستباقية نحو الحرب. فلماذا قد تكون قيادة الحزب قد تبنّت هذه المقاربة؟
1. إنّ مبادرة قوة غير نظامية إلى الحرب ضد جيش نظامي حديث ومتطوّر وهو في ذروة الجهوزية والاستنفار، ومحاط بعمق إستراتيجي إقليمي ودولي هائل، هي مغامرة كبرى وفيها تجاوز لكل مبادئ القتال غير المتماثل التي أثبتت جدواها تاريخيًا. منذ الخطاب الأول بعد 7 أكتوبر أعلن السيد نصرالله التزام المقاومة بمفهومها لحرب الاستنزاف والمواجهة ما دون مستوى الحرب.
هذا المفهوم (حرب استنزاف منخفضة الحدة وطويلة الأمد تقوم على المرحلية والتبادلية والمعادلات) ليس بالجديد بل فحصته وفككته عشرات الدراسات والكتب الإسرائيلية والغربية منذ عام 2008 تحديدًا. إنّ إصرار قيادة الحزب على مفهومها للحرب رغم تغيّر المفهوم الإسرائيلي مرتبط بتقييم البدائل.
مع الإشارة إلى أنّ فتح جبهة الإسناد (وهو نمط من القتال لم يكن الحزب قد تجهّز له أساسًا)، بما هي عمل هجومي جبهوي مستدام، هو تعديل في مفهوم الحرب السابق للحزب ولو أنه ليس خروجًا عنه بالكامل. إنّ مبادرة الحزب نحو حرب شاملة كان يعني الانتقال إلى مجال حيث للعدو أفضليات حاسمة.
هذا الجيل الجديد للحرب يعتمد على قدرات هائلة ومدمجة من جمع البيانات (بيئة عملياتية مغرقة بالمستشعرات)، والخوارزميات (التحليل عبر الذكاء الصناعي) ونيران سريعة ودقيقة وبعيدة المدى (إقفال حلقة النار)
2. تاليًا، كان الرهان أن التموضع الهجومي إسنادًا والدفاعي إستراتيجيًا هو المركّب الأجدى لمواجهة الحرب الشاملة إن وقعت. يشتمل هذا المركّب على: (1) تموضع دفاعي استنزافي للقوات البرية، (2) وضربات صاروخية نوعية مستدامة ولو بوتيرة منخفضة للعمق الصهيوني، (3) منجزات تكتيكية رمزية، (4) بالإضافة إلى حصانة أمنيّة نسبيّة للقيادة وسلسلة التحكّم والسيطرة وطواقم التشغيل (بفعل الدفاع السلبي والسرّية وطبيعة إجراءات العمل).
هذا التقدير لم يصح، ولكن ليس لذلك علاقة بتقدير اتجاه العدو نحو الحرب الشاملة بل لتقدير عملاني بما يستطيع العدو تحقيقه. هنا قد تأتي حجّة مضادة مفادها: كيف سيتخذ العدو قرار الحرب إن كان متشككًا بالنتائج؟ الجواب أنّ قرار العدو لا ينطلق من يقين عملاني بل من تصوّره لضرورة القرار وفق معطيات ما بعد 7 أكتوبر.
3. كان الحزب يتعرّض لحملة ضغوط محلية واسعة، سياسية وطائفية، مدعومة من قوى عربية ودولية لنزع المشروعية عنه بفعل جبهة الإسناد. ولذلك، إن مبادرة الحزب للحرب الشاملة انطلاقًا من قراءته للمفهوم الإسرائيلي الجديد، كانت ستتعرّض لتشكيك واسع وتهديد لمشروعيته ربما يصل حتى إلى داخل مجتمع المقاومة ربطًا بالأثمان المتوقعة بعد أن يقدّم العدو ردّه العسكري في إطار الدفاع بوجه خطر وجودي (كما يفعل في غزة)، وليس إستراتيجياً فقط. من المفيد هنا التذكير بأن خصوم الحزب في لبنان فبركوا له تهمة أنه قام بعملية الأسر في عام 2006 (وليس حربًا شاملة) لخدمة المشروع النووي الإيراني.
4. إنّ تغيّر مفهوم الحرب لدى حكومة نتنياهو لم يكن يعني حكمًا القدرة على تنفيذه نظرًا إلى التعقيدات المتعددة المستويات، عسكريًا وسياسيًا وإستراتيجيًا، التي كانت تواجه كيان العدو وحكومته في الحرب على غزة. وإلى اليوم بعد مرور عام على عدوان أيلول، ما تزال حكومة نتنياهو عالقة إستراتيجيًا في غزة رغم كل منجزاتها العملانية والتكتيكية تحت ظل حرب إبادية شاملة.
كانت جبهة الإسناد اللبنانية وسواها من إجراءات المحور، بما في ذلك الانخراط في جولات تفاوضية مع قوى إقليمية ودولية، تهدف إلى تعزيز تلك التعقيدات.
إذاً، التفسير البديل أن حزب الله لم يتفاجأ بالحرب الإسرائيلية، بل لم تفلح إستراتيجيته في التعامل معها رغم أنه توقّعها. لماذا؟ لأنه لم يشكّل تصوّرًا للجيل الجديد للحرب الإسرائيلية وما يمكن أن يحدثه من منجزات عملانية وتكتيكية غير مسبوقة. هذا الجيل الجديد للحرب يعتمد على قدرات هائلة ومدمجة من جمع البيانات (بيئة عملياتية مغرقة بالمستشعرات)، والخوارزميات (التحليل عبر الذكاء الصناعي) ونيران سريعة ودقيقة وبعيدة المدى (إقفال حلقة النار).
فلم تكن تكفي معرفة التطورات في عالم الذكاء الصناعي لدى العدو بل كيف يمكن دمجها استخباريًا وعسكريًا وناريًا وتحويلها إلى مفاهيم تشغيلية وربطها بخطط الحرب. وبحسب المعلومات المتداولة، فإنّ جيوشًا كبرى في العالم ترسل وفودًا إلى كيان العدو للتعرّف إلى هذا الجيل الجديد من الحرب، التي يبدو أنها فاجأتهم أيضًا.
هذه النقلة الإسرائيلية غير المنظورة، متصاحبة مع عمليات الاستهداف المتدحرجة منذ الثامن من أكتوبر 2023، حالت دون تحقّق الحرب وفق الرؤية التي كان قد تجهّز لها الحزب. وحتى من دون الاستهدافات المتدحرجة، ربما كان الحزب ليحقّق ضربة افتتاحية كبيرة ولكنها لن تكون مستدامة في ظل النقلة الإسرائيلية التي تكشّفت. وهذه النقلة ليست حدثًا، بل مسار كان ينمو طوال السنوات الأخيرة وكان يقوّض معادلات الردع بطريقة صامتة ومتدرجة دون إلغائها. ووفق ذلك، كانت معادلات الردع حقيقة قائمة في ظروف ما قبل 7 أكتوبر، أي قبل انتقال قادة العدو إلى مواجهة محور المقاومة وفق قاعدة «الخطر الوجودي».
إنّ محور المقاومة أمام أسئلة كثيرة، ولكن من أبرزها في سياق هذه المقالة، كيف أنتج العدو هذا الجيل الجديد للحرب؟ لماذا لم يتم إدراك نشوء هذا الجيل وتأثيراته المحتملة على الردع؟ والأهم كيف يمكن توليد نظرية جديدة للمقاومة مخصصة لهذا الجيل من الحرب، وبالسرعة الكافية؟ وهنا نقطة جوهرية هي مفهوم «دورة التفوّق/الاستدراك» في الحروب الحديثة، حيث تمنح قفزة تكنولوجية طرفًا ما نافذة تفوّق مؤقتة، ثم يبدأ الخصم في امتصاص الصدمة وتطوير استجابات تقنية–تنظيمية تُقلّص الفجوة. ودائمًا ما شكّلت هذه الدورة جزءًا كبيرًا من صراع قوى المقاومة مع الكيان الصهيوني، ولذا تحتاج قوى المقاومة الآن إلى ثورة في تطوير معايير التعلّم والتكيّف والابتكار داخلها.
إنّ الكثير مما يكتبه خبراء العدو وما يتم تسريبه للإعلام عن الحرب هو استكمال للحرب، سواء أكان صحيحًا أم مفبركًا أم ملتبسًا. بعض هذه الكتابات يهدف إلى ترسيخ تصورات محددة في ذهن أعداء الكيان تسمّم كل مصدر لإرادة المقاومة في الأمّة. ولذلك، لا بدّ من إنتاج تصوّر مستقل للحرب ونتائجها (لا سيما السلبيّة منها)، بأقصى درجات الموضوعية والشجاعة ونكران الذات والتعامل معها وفق ذلك. إنّ الإخفاق من طبيعة الحرب، وما تزال تختبره دول كبرى، ولذلك وإن كان الإخفاق يؤلم (وهو ألم أراه ضروريًا)، ولكن الإذلال لا يولد إلا من الاستسلام له.
أستاذ جامعي